" بيكاسّو في فلسطين": انتصار ساحق للاستعارة

29.06.2011 11:19 AM

صلاح بن عياد- صحيفة القدس العربي

 

سيبدو الأمر مذهلا. وهو يدلّ مرّة أخرى على أن الفلسطينيين قد تجاوزوا الأشكال التقليديّة والمألوفة للنضال. ها هم يبدعون ـ مرّة أخرى ـ في المادّة النضاليّة ويلقنون العالم درسا في الحياة وفي النضال لا وبل في التعامل مع الأثر الفنيّ.

ففي ظرف عربيّ يتراجع فيه الفن والثقافة عموما لينحشرا تحت إبطي السياسة، سيّدة الظرف الرّاهن، يبادر الفلسطينيون إلى قطع الحدود الغامضة ومعهم لوحة أصلية للرسّام الإسباني الأشهر بابلو بيكاسو (1881 ـ 1973). اللوحة قادمة من متحف ' فان آب' ببيتهوفن الهولنديّة وفي اتّجاهها إلى الأكاديميّة الدوليّة للفنون برام الفلسطينيّة. اللوحة هي عبارة عن بورتريه من تلك البورتريهات التي يعرف بها الرسّام لوجه امرأة. وجه امرأة يقطع الخارطة ليحط في الأراضي المحتلة، لأيّام قد ينسى فيها الفلسطينيون وجه العدوّ.

كنّا من الممكن أن نصمت وأن لا نحشر أنفسنا في الكتابة عن تظاهرة لن نشهد فعاليّاتها إلا بما ستجوده علينا وسائل الإعلام والتي ستأخذه عرضا في غلبة الثورات العربيّة المتعالية هنا وهناك من الفكر والشوارع، كنّا من الممكن أن نصمت إذن لو كانت اللوحة التي اتجهت إلى فلسطين هي ' الغيرنيكا' لبابلو بيكاسو أو غيرها من تلك اللوحات المباشرة، والتي يمكن أن تحمل رسالة واضحة يريد الفلسطينيون توجيهها إلى الكيان الصهيوني ودعاماته. نحن نصمت بين الرسالة المباشرة لأنها ستمثل السائد الثوريّ العربيّ اليوم، والذي سيحمل دلالات عدة منها أن الفنّ العربيّ هو تلك المادّة التي وقعها سلبها من الأنظمة المتهاوية وسدّ كلّ الفتحات المطلة على العمق. هكذا سنرى على سبيل المثال الفن، وحتى الثقافة التونسيّة، الذي سيبدو كصبيّ في خدمة الشأن السياسيّ.

لكن أن يعبر ' وجه امرأة' غامض بيكاسويّ ـ إن تصحّ العبارة هنا ـ كلّ تلك المسافة متغلبا على كلّ المصاعب فإننا حتما سنثار وسنحشر أنفسنا في هذه الكتابة انتصارا للعمق وللاستعارة، الكنه الحداثيّ لكل عمل فنيّ وإبداعي. هي إذن استعارة في طريقها إلى رام الله. وبحسب الشاعر العراقي شاكر لعيبي الذي يحضر الملتقى بصفته مدعوّا كأكاديميّ يعنى بالفن وبتاريخه فإن تلك الاستعارة قد دخلت الأرض الفلسطينية يحرسها الأمن المدجج بالسلاح. ولا غرابة في ذلك إذا ما تناولنا الأمر من ناحية أن هذه اللوحة تقيّم بنحو 18 مليون دولار حسب ما تتناوله مواقع عدة لكن سيبدو الأمر غريبا طبعا إذا ما رأينا هذا الأمن كحارس للاستعارة وهي تدخل أكاديميّة الفنون في رام الله، بينما يقتل الأمن في بقاع عربيّة عديدة الاستعارة وصانعها ويحرس الديكتاتور وأتباعه.

يعود هذا العمل الفنيّ إلى سنة 1943 يوم كان بيكاسو على قيد الحياة يجزّئ الوجوه والبورتريهات إلى ما شاء من أشكال وفق النمط الفنيّ الذي يشتغل عليه، ولم تكن فلسطين بعد قد جزئت وها هنا تكتسي الاستعارة بعدا آخر أعمق إذ هي دليل ملموس يعود إلى ما قبل 1948 سيعرض أمام جمهور فلسطيني وطلبة من تلك الأكاديمية في رام الله وهو لم يكن قد رأى فلسطين إلا مجزّأة. سيبدو صاحب الفكرة وهو التشكيلي ' خالد الحوراني' والمدير الفنيّ للأكاديمية الدولية للفنون في رام الله واعيا بحجم المغامرة في إثر ما أدلى به لإذاعات فلسطينيّة، إذ يشير فيما يشير إليه إلى أن ' استعارتنا' هذه تدخل على بلد لا يملك ' مقومات الدولة' من مطارات وغيرها، لكن هي في اتجاه فلسطين ولأوّل مرّة تتجه إلى فلسطين استعارة فنيّة بهذا الثقل الرّمزي، لأوّل مرّة أيضا سنلمس ما يستطيع الفنّ فعله وبعيدا عن المباشرة، وعلى أن لا تنجح في بلد مقاوم سوى ' الغيرنيكا' وأشباهها، الغيرنيكا هنا لأنها مستوحاة من قصف البلد الحامل لنفس تسمية اللوحة والتي تصور المشهد الدموي بحذافيره.

وعلينا أن نرى من ناحية أخرى وأنه على خلاف ما يحدث للفنّ في الأقطار العربيّة الأخرى المتعلّق بتلابيب السياسة، فها هو في هذه التظاهرة ' بيكاسو في فلسطين' يسخّر السياسة بأجهزتها ودبلوماسيتها وأموالها في خدمته بل وقد يخلّف في ذهن العدوّ الرّابض على الحدود وفي نقاط التفتيش أسئلة لم تطرح من قبل.

وفي قراءة للبرمجة سنلحظ حرص القائمين على هذا المشروع المتفرّد تساميهم على أيّ لغة مباشرة بدورها إذ تمضي العناوين كلها إلى نوع من التماهي مع الفنّان الإسباني فنجد ' أحاديث بيكاسو' ونجد أن اليوم الأول السبت 25 حزيران (يونيو) وهو انطلاق المحاضرات والمداخلات قد أطلقوا عليه عنوان ' مناطق بيكاسو' أمّا المتدخلون فهم ينصرفون إلى الشأن الفنيّ الخالص ابتداء من ليندا موريس في مداخلة عنوانها ' الصراع على عقل بيكاسو'، وشاكر لعيبي ـ الذي استفدنا منه لرسم خطوط هذه المادّة عبر التخاطب عن بعد ـ في مداخلة تحت عنوان ' بيكاسو وفن المستعربين' حيث يلمّح لعيبي إلى استفادة بابلو بيكاسو الواضحة في رسوماته من حضارات الشرق القديمة والحديثة وذلك بدراسة تطبيقية على آثار فنيّة عديدة، وكيف لا وهو ـ بيكاسو ـ آت من مالقا الاسبانية أو ' مالاغا' كما سمّاها المسلمون في حقبتهم تلك، المدينة المطلة على المتوسط المنفتحة دوما على الشرق. هذا إضافة إلى عاطف أبو سيف والذي سيستخدم ' السكايب' من غزة في محاضرة عنوانها ' بيكاسو في غزة' وقد لا نتطلب مجهودا كبيرا في فهم ما يربض من رسائل وراء هذه المداخلة الحقيقية عبر آلية افتراضيّة.

أما اليوم الثاني الأحد 26 حزيران (يونيو) وبحسب مطوية البرنامج أيضا فقد أطلق على هذا اليوم عنوان ' الطموح، السيطرة المال' وذلك في علاقته بالفن طبعا عبر مداخلات لكل من يزيد غناني (المتاحف) وأندرو كونيو في مداخلة بعنوان (إمكانية تدخل الفن) الخ......ليعرضا فيلمين عن بيكاسو، أحدهما فيلم لغز بيكاسو myst're de Picasso 1956 لصاحبه الذي عايش رسامنا الملغز هنري جورج كلوزو Henri-Georges Clouzot.

وبعيدا عن أيّ مقارنات سنلاحظ أن التظاهرة الثقافيّة في بلد مثل فلسطين على غرار ' بيكاسو في فلسطين' تأخذ بعدها الأكاديميّ والفنيّ بعيدا عن أيّ ادّعاءات إذ ربما ما يعني الساحة الثقافية الفلسطينية عموما هو أن تنتصر على العراقيل، العراقيل التي هي من طبيعة سياسيّة في نهاية الأمر وفي ذلك وعي عميق بأن النضال قد يكون أيضا في أن نبقى على قيد الحياة وأن نمارس تلك الحياة كما يجب أن تمارس. أن ترى فلسطينيّا يقطف ورودا على مشارف مستوطنة فلك أن تعتبر ذلك نوعا من المقاومة لأنه تجاوز هدف المستوطنة في جعله لا يتحقق والهدف هو حرمانه من تلك الورود أوّلا ومن تلك الأرض ثانيا ومن تلك الحياة العادية السليمة ثالثا. أمّا في بلدنا تونس مثلا فكثيرا ما تتحول التظاهرة الفنية تظاهرة استعراضية تقلّب فيه كلمة الثورة على نار العاطفة كما يقلب الفطير. ونكاد نسلم أن تونس إذا كانت أوّل من ثار من العرب فإن في ذلك استفادة من ثورات فلسطين التي لم تتمّ لتبقى في حدود الانتفاضة، عبر انتفاضتيها المعروفتين 1987 و2000 ممّا يجعل هذا البلد ذا خبرة في تسيير شؤون النضال والحياة والتظاهرات الفنيّة وغيره. ومن يدري قد تبقى ثورة تونس وحتى مصر في حدود الانتفاضة إذا ما انتصب ديكتاتور آخر.

على تونس وغيرها من البلدان العربيّة أن تستوعب درس ' بيكاسو في فلسطين'، الاستعارة الفنية الملموسة التي وعلى الرغم من غموض خارطة فلسطين وعدم امتلاكها لملامح الدولة الواضحة إلا أنها انطلقت من المتحف الشهير الهولندي ـ البلد الواضح الملامح ـ إلى الكلمة الواضحة في اللغة وفي الأذهان والتي ستتضح على الأرض طالما تشبّث الفلسطينيون وكل من يتبنى هذه القضية من عرب وغيرهم بذلك.

شاعر تونسي

 

تصميم وتطوير